facebook

أسس رقابة الدولة

تعتبر رقابة الدولة من أسس النظام الديمقراطيّ الحديث. تطوّر الدولة الإدارية ودولة الرفاه الحديثة ومعهما توسّع البيروقراطية، في السنوات التي تلت الحرب العالميّة الثانية حوّلت الإدارة العامّة إلى جزء لا يتجزّأ من حياة المواطن اليوميّة في الدولة الحديثة

تعتبر رقابة الدولة من أسس النظام الديمقراطيّ الحديث. تطوّر الدولة الإدارية ودولة الرفاه الحديثة ومعهما توسّع البيروقراطية، في السنوات التي تلت الحرب العالميّة الثانية حوّلت الإدارة العامّة إلى جزء لا يتجزّأ من حياة المواطن اليوميّة في الدولة الحديثة. فقد بدأت الدولة بتقديم خدمات كثيرة وبدأت تموّل خدمات أخرى بنفسها أو بواسطة طرف ثالث، وتحوّلت هيئات حكومية إلى هيئات تنظيميّة (regulative) وتفتيشيّة في مجالات كثيرة إضافيّة. عمليًّا، كلّ خطوة صغيرة أو كبيرة للفرد ترافقها السلطة الإدارية، بهذه الطريقة أو تلك. هذا الواقع يثير معضلات معقّدة. جاءت أجهزة الدولة الحديثة البيروقراطية، من جهة أولى، من أجل خدمة الفرد، فهي توفّر له حياة رفاه وتضمن له حقوقه. و من الجهة الأخرى، في استعمال الدولة للصلاحيات والقوة العظيمة التي أعطيت لها ولعامليها، تكمن إمكانيّة للمساس بالمصلحة العامّة، واستغلال قوّة السطوة والسلطة من أجل المصلحة الشخصيّة، وللمسّ بحقوق الفرد واستعمال الموارد العامّة بشكل غير ناجع.

من أجل التغلّب على هذه الأخطار الكامنة في منح صلاحيّات واسعة لمؤسسات الإدارة العامة، أسست الدولة الحديثة منظومة رقابة، رقابة السلطة الإدارية وأذرعها، لضمان قانونية وانتظام أعمال الإدارة العامّة، والنزاهة والمحافظة على حقوق الفرد، والإدارة السليمة والنجاعة والتوفير. لرقابة الدولة دور مركزيّ في منظومات تلك الرقابة ، وبحكم كونها كذلك، فهي تعتبر جزءًا من التوازنات والكوابح في الدولة الديمقراطية. وظيفة رقابة الدولة هي تقييم عمل الهيئات الخاضعة لرقابتها وفق المعايير التي تنظّم عملها. مكانة رقابة الدولة هي أحد مقاييس حصانة ديموقراطيّة الدولة. وجود رقابة خارجيّة على السلطة التنفيذيّة ونشر نتائج الرقابة على الملأ، يعبران عن المبدأ القائل بأنّ موظفي الحكومة (موظفي الخدمات العامّة) في الدولة الديمقراطية هم خدم مخلصون للجمهور وليسوا أسيادًا له، وهو يعتبر حافزًا رئيسيًّا لزيادة تحمّل الإدارة العامّة للمسؤولية  (accountability)وشفافية أعمالها. الرقابة الفعالة على سلطات الدولة هي الضمان لكون المجتمع مجتمعا حرًّا و ديمقراطيًّا. 

أقيمت في معظم دول العالم الديمقراطيّ مؤسسة رقابة رسميّة عليا (Supreme Audit Institution - SAI) مستقلّة، وظيفتها رقابة الإدارة الحكومية والهيئات العامّة الأخرى وتقييم أدائها وعملها. مبادئ عمل مؤسسات الرقابة الدولة العليا منصوص عليها في إعلان ليما  الصادر سنة 1977 ( The Lima Declaration of Guidelines on Auditing Precepts)  وفي إعلان المكسيك الصادر سنة 2007  (The Mexico Declaration on SAI Independence) اللذين أقرّتهما المنظّمة العالميّة لمؤسسات رقابة الدولة -  International Organization of Supreme Audit Institutions (INTOSAI).  من بين ما ينصّ عليه هذان الإعلانان ضرورة وجود قاعدة عمل قانونيّة أو دستوريّة لمؤسسة رقابة الدولة العليا؛ واستقلالية وحصانة من يقف على رأس  هذه المؤسسة؛ وضرورة أن يكون لدى مؤسسة رقابة الدولة تفويض واسع وصلاحيات للعمل فقط بحسب ما تراه مناسبًا في كلّ ما يتعلّق بأدائها لمهماتها؛ وواجب تمكين موظفي الرقابة من الوصول إلى المعلومات بشكل كامل؛ وضرورة إعطاء صلاحيات للنشر وتقديم تقارير علنية عن نتائج الرقابة؛ وواجب تمكينها من حريّة العمل في جميع المجالات، والمواضيع، ومواعيد الرقابة؛ ووجوب إنشاء أجهزة ناجعة لإصلاح النواقص وواجب توفير الموارد اللائقة والاستقلالية الإدارية والمالية لمؤسسة رقابة الدولة.

مؤسسة رقابة الدولة العليا في دولة إسرائيل هي ديوان مراقب الدولة ومندوبية شكاوى الجمهور، التي تعمل حاليًّا استنادًا إلى قانون أساس: مراقب الدولة الذي سنّته الكنيست في سنة 1988، والذي يعتبر ذروة ما وصلت إليه مكانة رقابة الدولة في إسرائيل. يرسّخ هذا القانون الأساس المكانة القانونيّة/ الدستورية لمراقب الدولة ومندوب شكاوى الجمهور. تحدّد المادّة 2 (أ) من القانون الأساسيّ أنواع الهيئات الخاضعة لرقابة مراقب الدولة: "يراقب مراقب الدولة الجهاز الاقتصادي، الأملاك، الأموال، والتعهدات والإدارة للدولة، وللوزارات الحكومية، ولكل مشروع أو مؤسسة أو اتّحاد شركات تابعة للدولة أو للسلطات المحلّيّة أو لهيئات أو مؤسسات أخرى خضعت بموجب القانون لرقابة مراقب الدولة"، كما تحدّد المادّة 2 (ب) حجم وعمق الرقابة على هذه الهيئات: يفحص مراقب الدولة قانونية الأعمال والنزاهة والإدارة السليمة والنجاعة والتوفير لدى الهيئات الخاضعة للرقابة، وكلّ موضوع آخر يرى ضرورة لرقابته". كما تحددت في المادّة 4 صلاحيات مراقب الدولة القانونية للنظر في شكاوى الجمهور بحكم كونه "مندوبَ شكاوى الجمهور". كذلك، يحدد القانون الأساسيّ وجوب تقديم الهيئات الخاضعة  للرقابة المعلومات لمراقب الدولة. 

تنتخب الكنيست مراقبَ الدولة في تصويت سرّيّ وبأغلبية خاصّة وتستمر ولايته دورة واحدة مدتها سبع سنوات. المراقب مسؤول في أداء مهامّه أمام الكنيست فقط وليس متعلقًا أو مرتبطًا بالحكومة؛ وهو وحده الذي يقرر المواضيع التي يقوم بالرقابة عليها في كلّ سنة. ميزانية ديوانه تتقرّر بناءً على اقتراحه ويتم التصديق عليها منفصلة عن ميزانية الدولة في لجنة المالية التابعة للكنيست، أمّا التقرير عن تنفيذ ميزانية ديوانه فيقدّمه المراقب إلى لجنة شؤون رقابة الدولة. كما أن المراقب مستقل في كلّ ما يتعلّق بتجنيد الموظفين في مكتبه أو فصلهم. يقدّم مراقب الدولة التقارير ووجهات النظر للكنيست في مجال وظائفه وينشرها على الملأ، وكلّ ذلك وفق الطريقة والقيود التي يحددها القانون.

لقد اعترفت دولة إسرائيل منذ الأيّام الأولى لقيامها بأهمية رقابة الدولة. ومنذ سنة 1949 سنت قانون مراقب الدولة الذي أقرّته الكنيست بتاريخ 18 أيّار 1949، والذي بناءً عليه أقيم ديوان مراقب الدولة في إسرائيل، والذي يعتبر من المؤسسات الأولى التي أقيمت في السنوات الأولى بعد قيام دولة إسرائيل. لقد تمّ تعديل القانون عدة مرّات، وفي قانون مراقب الدولة لسنة 1958 [نصّ موحّد]، دُمج نصّ القانون الأصلي مع التعديلات التي أضيفت عليه حتّى ذلك الوقت. وضع القانون أساسًا راسخًا ومتينًا لرقابة عميقة وأساسيّة، و أعطى للمراقب ومنذ قيام الدولة، صلاحيات واسعة بالنسبة لأنواع الهيئات الخاضعة لرقابته، وكذلك بالنسبة لحجم وعمق الرقابة على هذه الهيئات.

تضمّن قانون مراقب الدولة في صيغته الأصلية أساسَيْن: الأوّل – الرقابة بدلالتها التقليديّة – الرقابة على الانتظام والقانونيّة؛ والثاني – الرقابة على التوفير والنجاعة. في تعديل القانون من سنة 1952 أضيفت إليه الرقابة على النزاهة. مع مرور الوقت اتسعت الرقابة لتفحص أداء وفعّاليّة أعمال الهيئات الخاضعة للرقابة. ابتداء من ثمانينات القرن العشرين تتناول رقابة الدولة في إسرائيل، في الحالات الجديرة، تقييم نتائج أعمال السلطة وسياستها. و في آنٍ واحد مع هذا التطوّر تمّ توسيع مجالات الرقابة فشملت هيئات إضافيّة، مثل: الشركات (اتّحاد الشركات) الحكوميّة، السلطات المحلّيّة، شركات فرعية تابعة لهيئات خاضعة للرقابة، مؤسسات التعليم العالي، صناديق المرضى وجمعيات المواصلات العامّة التعاونية وغيرها.

أناطت الكنيست بمراقب الدولة، لاحقًا، بموجب قانون تمويل الأحزاب لسنة 1973 وقانون السلطات المحلّيّة (تمويل الانتخابات)، لسنة 1993، مهمة الرقابة على حسابات القوائم في الكنيست وحسابات المرشّحين والقوائم في انتخابات السلطات المحلّيّة. وفي فترة لاحقة وبموجب قانون الانتخابات لسنة 1992، أنيطت بمراقب الدولة مهمّة القيام بالرقابة على الحسابات الجارية للمرشّحين في الانتخابات التمهيدية (البرايميريز) في الأحزاب المختلفة.

يشغل مراقب الدولة، منذ سنة 1971، وظيفة مندوب شكاوى الجمهور، وهو يعتبر العنوان لكلّ مواطن يريد أن يتقدّم بشكوى بسبب ضرر لحق به من أيّ هيئة حكومية عامّة حدّدها القانون (الهيئة  المُشتكَى عليه). كما سبق وقلنا، إشغال مراقب الدولة لوظيفة مندوب شكاوى الجمهور منصوص عليه في القانون الأساسيّ: مراقب الدولة في وظيفته هذه ، كمثل الهيئات القضائية (المحاكم) على اختلاف درجاتها، يحمي حقوق الفرد وينظر في مواضيع شخصية بين الفرد والسلطة. يؤدي مندوب شكاوى الجمهور مهامّ عمله بواسطة مندوبية شكاوى الجمهور، والتي تعتبر وحدة خاصة في مكتب مراقب الدولة. الدمج بين مؤسسة رقابة الدولة العليا ومندوبية شكاوى الجمهور(ombudsman)  هو عمل متميّز له حسناته الكثيرة: مراقب الدولة يقوم بمبادرته بالرقابة على مجمل أعمال الهيئات الخاضعة للرقابة، بينما ينظر مندوب شكاوى الجمهور في الشكاوى التي تصله والتي تتعلق بإلحاق الضرر بالفرد في موضوع معيّن. تتكشف أمام المندوب طريقة إدارة  فاسدة أو انتهاك منهجي للقانون في أعقاب النظر في شكوى معيّنة – في هذه الحالة تتيح للمراقب وظيفته الأخرى أن يصدر تعليماته إلى موظفي ديوانه العاملين في الرقابة لفحص موضوع الشكوى ليس من وجهة نظر المشتكي فقط، بل من وجهة نظر عامّة ومنهجيّة تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامّة، مصلحة جميع المواطنين. هذا بالإضافة إلى أنّ مندوبيّة شكاوى الجمهور تستعين في فحصها للشكاوى بالمعلومات التي لدى وحدات الرقابة في المواضيع المتعلّقة بالشكاوى.